إن صاحب المنزل لا يدعنا ها هنا..
المقدمة
الحمد لله وكفى..والصلاة والسلام على رسوله الذي اصطفى..وبعد
أيها القارئ الكريم..يا من فـرّغـت هذا الجزء اليسير من وقتك للفائدة، تعال
لنبحر سوياً في هذه الخواطر المفيدة بإذن الله.
فقد خلقنا الله تعالى لغاية عظيمة ألا وهي عبادته } وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ { الذاريات(56). ثم تكفل ربنا بالرزق فقال عز
من قائل{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}الذاريات(58).فإن اجتمعت المخلوقات كلها على طاعته سبحانه وتعالى ،
ما زاد ذلك في ملكه شيئاً ,وإن اجتمعوا كلهم على معصيته لم ينقص ذلك من ملكه شيئاً.
إذاً فمن المستفيد ؟ ومن المتضرر ؟ الإجابة هي: نحن المخلوقين.
وذلك لأن الله تعالى عندما بيّن لنا هذه الحقائق فهو يريد لنا الرحمة لا الشقاء.
فمن علم أن وظيفته الأساسية هي العبادة ، وفي نفس الوقت علم يقيناً أن رزقه بيد الله ، وأن
ذلك مكتوب في اللوح قبل خلق السماوات والأرض , لم يحزن على ما فات من الماضي
كفرصة استثمارية فاتته أو أرض لم يشترِها أو غير ذلك مما يسمى عند كثير من الناس
بــ "فرص لا تعوض". ولا يخاف أيضاً من المستقبل فيحمل همّ رزقه و رزق من يعول.
ولكنه يجب أن يحزن عند تقصيره في جنب الله لأن ذلك التقصير جاء في الوظيفة
الأساسية المطلوبة من العبد و يجب أن يخاف من المسقبل حين يحاسبه الله على هذا
التقصير. وهذا هو الشاهد الذي نسعى إلى توضيحه في حديثنا في هذه المقالة.
ما هو دورنا ؟ وما هي حقيقة وجودنا في الدنيا؟
قال رسول الله : ( لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع:عن عمره فيم أفناه و عن
علمه ما فعل فيه و عن ماله من أين اكتسبه و فيم أنفقه و عن جسمه فيم أبلاه)
صححه الألباني في صحيح الجامع (7300).
ونحن نعلم أن الركن السادس من الإيمان هو الإيمان بقـضاء الله وقدره. وهذا
يتضمن - ولا شك - الرضا بقضائه في رزقه. فالمال رزق، والزوجة رزق، والولد رزق.
قال رسول الله (إن روح القدس نفث في روعي ، أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها ،
وتستوعب رزقها ، فاتقوا الله ، وأجملوا في الطلب ، ولا يحملن أحدكم استبطاء
الرزق أن يطلبه بمعصية الله ، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته)
صححه الألباني في صحيح الجامع (2085).
ما هي المشكلة؟
فما بال أكثر الناس اليوم يصرفون جلّ أعمارهم إمّا في الاجتهاد المفرط في طلب
الرزق!
و يتجاوزون الحد في تحصيل أسباب الرزق. قال تعالى
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ }محمد(12).
وتجاوز الحد يكون إما بإفراط، فيدخل في قول النبي (تعس عبد الدينار...الحديث)
صححه الألباني في صحيح الجامع (2962).
ويكون إمّا بتفريط وهذا يؤدي إلى تضييع الأخذ بالأسباب وهو أيضاً مذموم في شريعتنا.
و المطلوب
هو التوسط بين الطرفين، فالمسلم يؤدي العمل المطلوب، فيعقل ويتوكل،
وينفي الريب عن فؤاده، بعد أن يؤدي ما عليه، عملاً بقول المصطفى :
((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) متفق عليه.
قليل من الناس من يخصص بعض وقته للعمل الأخروي، وتجد من هؤلاء القليل كثير
يخصصون "فضلات" الأوقات للعمل الأخروي، وهؤلاء قد غبنوا أنفسهم بعدم إعطائها
الفرصة المناسبة للتزود للآخرة.
ومن المعلوم أن المؤمنين بشرائع الله على مراد الله المتبعين للأنبياء ولم
ينقضوا إيمانهم لهم جنات المأوى خالدين فيها.ولكن هلا فكرت أخي الكريم في أيّ
الدرجات تريد أن تحجز لنفسك مكاناً ؟
في الدنيا التي عمرنا فيها لا يزيد - في المعدل – عن الستين والسبعين، نطلب
ونجتهد ونخطط بكل عزم و قوة للحصول على أعلى المراتب في الوظائف، وأجمل النساء
للزواج، وأغلى السيارات للحصول على الراحة.
لاحظ أخي الكريم المفردات (أعلى، أجمل، أغلى، أكثر..) .
بينما إذا كان الكلام عن دار الخلود، زعمنا بألسنتنا ما يخالف أعمالنا، فنحن
ولا شك نحب أن نسكن في الفردوس الأعلى، ولكن هل عملنا لذلك المكان؟ وهل وضعنا
خطة استراتيجيه – ذات أهداف طويلة المدى- للحصول على رضى الله ومن ثم استحقاق
الجنة ؟
فمن بدأ في صيام ثلاثة أيام من كل شهر، من السهل عليه أن يرتقي - بعد أن يثبت
مدةً على ذلك- إلى صيام الاثنين والخميس. ومن ثم إلى صيام داود عليه السلام وهو
صيام يوم وترك يوم -وهذا فقط لأصحاب الهمم العالية-.
ومن واظب على صدقة سنوية فترة من الزمان، يسهل عليه أن يضيف إليها صدقة شهرية،
ثم أسبوعية.
ومن خصص لنفسه وعائلته درساً أسبوعياً، فليجعلهم درسين ولكن وفق منهج علمي بعد
استشارة المختصّين.
ومن أراد حفظ القرآن – بعد قراءته قراءةً تصحيحية على أحد المختصين - في عشر
سنوات مثلاً، فعليه أن يقسم أجزاء القرآن الثلاثين على العشر سنوات بحسب عدد
الأشهر، وبعدها يضع خطة مجدولة يومية ثابتة يكون من ضمنها جدول لمراجعة الحفظ
أولاً بأول ،وكذلك يثبت حفظه عن طريق قيام الليل.
وهكذا..
فإن اغتنام الأعمار في عمار أخرانا، هو والله الأمر الذي يجب أن تصرف
فيه جل أوقاتنا في هذه الدنيا.
ولنتأمل هذه المفردات في كتاب الله فهي قليلة في عددها عظيمة في وزنها، فقط إذا
قرأناها ووعيناها بقلوبنا:
قال تبارك وتعالى{ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ
عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ
ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}الحديد(21).
وقال أيضاً { وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ
عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}آل عمران(133).
وأمّا الدنيا فقال عنها{ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ
وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }الملك(15).
وقصة الجواب الفريد باختصار هي [color=#ff0000]
[size=25][size=21] أن رجلاً دخل على أبي ذر رضي الله عنه فجعل[/size][size=21]يقلّب بصره في بيته [/size]
[size=7][/size]
[size=21]فقال: يا أبا ذر أين متاعكم؟ فقال: إن لنا بيتا نتوجه إليه،
فقال: إنه لابد من متاع ما دمت ها هنا، فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا ها هنا [color:7d2b=#0000ff:7d2b]...
[/size][/size]
وأختِم
بهذا الجواب - الفريد من نوعه و الدّالّ على عمق فهم صاحبه- الصادر من أحد
الصحابة الذين هم تلامذة المدرسة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
والذي يستحق منا أكثر من وقفة عابرة، بل يحتاج إلى دراسة متأنية لنفهم حقيقة
الدنيا الزائلة والتي يجب أن نعطيها وزنها الحقيقي وهو استخدامها كمزرعة للآخرة الخالدة.
ومبدأ الزراعة هو مبدأ إداري عظيم – وهو أن هناك وقت مخصص لكل شيء، فالحرث له
وقت، والبذر له وقت، والسقي له وقت، والحصاد له وقت، فمن أضاع البذر في وقته
مثلاً جاء المحصول ضعيفاً أو به آفات وهكذا- فهمه ووعاه سلفنا الصالح ولا غرابة
في ذلك، فمن كان أستاذهم ومعلمهم ؟ ومن كانوا هم فقد رضيهم الله لصحبة أشرف
الخلق وسيد ولد آدم عليه أفضل الصلاة والتسليم.
هذا..
و أسأل الله العظيم، رب العرش العظيم، أن يفقهنا في ديننا، وأن لا يجعل
الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، وأن يجعلنا في
الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
2007-09-05, 4:05 am